كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَنَقُولُ: إِنَّ جَعْلَ الشَّرْعِ الْعِتْقَ كَفَّارَةً لِذُنُوبٍ مُتَفَاوِتَةٍ إِنَّمَا لِعِنَايَتِهِ بِتَحْرِيرِ الرَّقِيقِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ كُلِّ ذَنْبٍ مِنْهَا لَهُ جَزَاءٌ فِي الْآخِرَةِ بِقَدْرِهِ، يُشِيرُ إِلَيْهِ تَفَاوُتُ الْكَفَّارَةِ بِالصِّيَامِ.
ثُمَّ قَالَ:
الثَّالِثُ: إِذَا أَحْدَثَ فِي رَأْسِ إِنْسَانٍ مُوضِحَتَيْنِ وَجَبَ فِيهِ أَرْشَانِ فَإِنْ رُفِعَ الْحَاجِزُ بَيْنَهُمَا صَارَ الْوَاجِبُ أَرْشَ مُوَضِحَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَاهُنَا ازْدَادَتِ الْجِنَايَةُ وَقَلَّ الْعِقَابُ فَالْمُسَاوَاةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعَبُّدَاتِ الشَّرْعِ وَتَحَكُّمَاتِهِ اهـ.
وَنَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْقِصَاصِ فِي شَجَّةِ الرَّأْسِ الْمُوضِحَةِ (وَهِيَ مَا كَشَفَ الْعَظْمَ) وَالْمُوضِحَتَيْنِ لَيْسَ مِمَّا وَرَدَ فِيهِ نَصُّ الشَّرْعِ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَتَعَبَّدْنَا بِهِ تَعَبُّدًا، وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَرْشُ الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، فَإِذَا شَجَّ رَجُلٌ رَجُلًا مُوَضِحَتَيْنِ ثُمَّ أَزَالَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا فَصَارَ كَالْمُوضِحَةِ الْوَاحِدَةِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ يَتَبَدَّلُ فَيَصِيرُ الْوَاجِبُ أَرْشَ مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا قَالَ، وَإِنْ قَالَهُ مَعَهُ مِائَةُ فَقِيهٍ مِثْلُهُ.
ثُمَّ قَالَ:
الرَّابِعُ: إِنَّهُ يَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ تَفْوِيتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ثُمَّ إِذَا قَتَلَهُ وَفَوَّتَ كُلَّ الْأَعْضَاءِ وَجَبَتْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَوْلَ مِنْ رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعَبُّدَاتِ الشَّرْعِ وَتَحَكُّمَاتِهِ اهـ.
وَنَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ هُوَ وَمَا قَبْلَهُ لَيْسَ مِنْ تَعَبُّدَاتِ الشَّرْعِ وَتَحَكُّمَاتِهِ كَمَا زَعَمَ بَادِيَ الرَّأْيِ بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ يُوجِبُ الْقِصَاصَ لَا الدِّيَةَ إِذَا كَانَ عَنْ تَعَمُّدٍ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ وَلِيٌّ لِدَمٍ وَيَرْضَى بِالدِّيَةِ. وَفَسَادُ قَتْلِ الْخَطَأِ الْمُوجِبِ لِلدِّيَةِ دُونَ فَسَادِ قَطْعِ الْيَدِ أَوِ الرِّجْلِ أَوْ قَلْعِ الْعَيْنِ تَعَمُّدًا؛ عَلَى أَنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِعْيَارًا لِعُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا يُرَاعَى فِيهَا مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ مَا لَا مَحَلَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، كَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ بِشَرْطِهِ يُرَاعَى فِيهِ رَدْعُ الْمُجْرِمِينَ وَتَخْوِيفُهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ هَذَا الْعَمَلِ الَّذِي يُزِيلُ أَمْنَ النَّاسِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَيَسْلُبُ رَاحَتَهُمْ وَيُكَلِّفُهُمْ بَذْلَ مَالٍ كَثِيرٍ وَعَنَاءٍ عَظِيمٍ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ- وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي سَارِقُ الدِّينَارِ أَوْ رُبْعِ الدِّينَارِ وَسَارِقُ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالْجَوَاهِرِ، وَحَسْبُنَا هَذَا التَّنْبِيهُ هُنَا.
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} قَدْ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الْجَامِعَةِ فَكَانَتْ خَيْرَ الْخَوَاتِيمِ فِي بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ. ذَلِكَ بِأَنَّنَا بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِهَا أَنَّهَا أَجْمَعُ السُّورِ لِأُصُولِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهَا وَدَفْعِ الشُّبَهَ عَنْهَا، وَلِإِبْطَالِ عَقَائِدِ الشِّرْكِ وَتَقَالِيدِهِ وَخُرَافَاتِ أَهْلِهِ. وَهَذِهِ الْخَاتِمَةُ مُنَاسِبَةٌ لِجُمْلَةِ السُّورَةِ فِي أُسْلُوبِهَا وَمَعَانِيهَا؛ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ مِمَّا امْتَازَتْ بِهِ السُّورَةُ كَثْرَةُ بَدْءِ الْآيَاتِ فِيهَا بِخِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلِمَةِ {قُلْ} لِأَنَّهَا لِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، كَمَا كَثُرَ فِيهَا حِكَايَةُ أَقْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مَبْدُوءَةً بِكَلِمَةِ (وَقَالُوا) مَعَ التَّعْقِيبِ عَلَيْهَا بِكَشْفِ الشُّبْهَةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ- تَرَى بَعْدَ هَذَا وَذَاكَ فِي آخِرِ الْعُشْرِ الْأَوَّلِ وَأَوَّلِ الْعُشْرِ الثَّانِي مِنْهَا- فَجَاءَتْ هَذِهِ الْخَاتِمَةُ بِالْأَمْرِ الْأَخِيرِ لَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمُ الْقَوْلَ الْجَامِعَ لِجُمْلَةِ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ أَنَّ مَا فُصِّلَ فِي السُّورَةِ هُوَ صِرَاطُ اللهِ الْمُسْتَقِيمُ، وَدِينُهُ الْقَيِّمُ الَّذِي هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، دُونَ مَا يَدَّعِيهِ الْعَرَبُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ الْمُحَرِّفُونَ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ إِنَّمَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَهُوَ مُعْتَصِمٌ بِهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَإِيمَانًا وَتَسْلِيمًا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهِهِ، فَهُوَ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَخْلَصُ الْمُوَحِّدِينَ، وَأَخْشَعُ الْعَابِدِينَ، بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ تَجْدِيدِ الدِّينِ وَإِكْمَالِهِ بَعْدَ تَحْرِيفِهِ وَانْحِرَافِ جَمِيعِ الْأُمَمِ عَنْ صِرَاطِهِ، وَأَنَّ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي يُخَالِفُنَا فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي هُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [12: 106] وَأَنَّ الْجَزَاءَ عِنْدَ اللهِ عَلَى الْأَعْمَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ انْتِفَاعِ أَحَدٍ أَوْ مُؤَاخَذَتِهِ بِعَمَلِ غَيْرِهِ. وَأَنَّ الْمَرْجِعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَأَنَّ لَهُ تَعَالَى سُنَنًا فِي اسْتِخْلَافِ الْأُمَمِ وَاخْتِبَارِهِمْ بِالنِّعَمِ وَالنِّقَمِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى عِقَابَ الْمُسِيئِينَ وَالرَّحْمَةَ لِلْمُحْسِنِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَهْدِمُ أَسَاسَ الشِّرْكِ الَّذِي هُوَ الِاتِّكَالُ عَلَى الْوُسَطَاءِ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ فِي غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمْ وَقَضَاءِ حَاجَتِهِمْ.
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْخَاتِمُ لِلنَّبِيِّنَ لِقَوْمِكَ وَسَائِرِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ وَهُمْ جَمِيعُ الْبَشَرِ: إِنَّنِي أَرْشَدَنِي رَبِّي وَأَوْصَلَنِي بِمَا أَوْحَاهُ إِلَيَّ بِفَضْلِهِ وَاخْتِصَاصِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَكَذَا غَيْرُهَا إِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَصِلُ سَالِكُهُ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ- الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ- مِنْ غَيْرِ عَائِقٍ وَتَأْخِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [48: 2] وَهُوَ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى طَلَبِهِ مِنْهُ تَعَالَى فِي مُنَاجَاتِكُمْ إِيَّاهُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [1: 6] {دِينًا قِيَمًا} أَيْ إِنَّ هَذَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الدِّينُ الَّذِي يَصْلُحُ وَيَقُومُ بِهِ أَمْرُ النَّاسِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ: فَقَوْلُهُ: {دِينًا} بَدَلٌ مِنْ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ و{قِيَمًا} صِفَةٌ لَهُ. قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ نُعِتَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَكَانَ قِيَاسُهُ قِوَمًا كَعِوَضٍ وَلَكِنَّهُ أُعِلَّ تَبَعًا لِفِعْلِهِ قَامَ كَالْقِيَامِ وَأَصْلُهُ الْقَوَامُ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِ النِّسَاءِ وَأَوَاخِرِ الْمَائِدَةِ أَنَّهُ مَا يَقُومُ وَيَثْبُتُ بِهِ الشَّيْءُ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ بِوَزْنِ (سَيِّدٍ) وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الْمُسْتَقِيمِ بِزِنَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ بِصِيغَتِهِ وَكَثْرَةِ مَادَّتِهِ وَقِيلَ بِمَا فِي الصِّيغَةِ مِنْ مَعْنَى الطَّلَبِ، فَكَانَ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ قَيِّمًا، أَوْ يَجْعَلُ ذَلِكَ سَهْلًا. وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [5: 97] مَا يُفِيدُ الْقَارِئَ تَفْصِيلًا فِيمَا فَسَّرْنَا بِهِ الدِّينَ الْقَيِّمَ {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} أَيْ أَعْنِي- أَوِ الْزَمُوا- مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَالَ كَوْنِهِ حَنِيفًا، أَيْ مَائِلًا عَنْ جَمِيعِ مَا سِوَاهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْبَاطِلِ وَالْعِوَجِ وَالضَّلَالِ مُسْتَقِيمًا عَلَيْهِ، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فَإِنَّ الْحَنِيفِيَّةَ تُنَافِي الشِّرْكَ، فَفِيهِ تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ وُصِفَ إِبْرَاهِيمُ بِالْحَنِيفِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2: 135] وَسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ (3: 67 و95) وَسُورَةِ النَّحْلِ (16: 120 و123) وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ [6: 79] وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَفِي كُلِّ آيَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَصْفٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَجَاءَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [4: 125] وَلَكِنْ قِيلَ: إِنَّ حَنِيفًا هُنَا حَالٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَقِيلَ: مِنْ إِبْرَاهِيمَ.
هَذَا الدِّينُ دِينُ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ فِي الْعِبَادَةِ، هُوَ الدِّينُ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَقَرَّرَهُ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَلَى آلِهِ هُوَ النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِفَضْلِهِ وَصِحَّةِ دِينِهِ وَحُسْنِ هَدْيِهِ الْعَرَبُ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَّلٌّ يَدَّعِي الِاهْتِدَاءَ بِهُدَاهُ، وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ وَافَقَهَا مِنَ الْعَرَبِ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْحُنَفَاءَ، مُدَّعِينَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ؛ وَلِذَلِكَ وُصِلَ وَصْفُهُ بِالْحَنِيفِ بِنَفْيِ الشِّرْكِ عَنْهُ، وَكَذَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِادِّعَاءِ اتِّبَاعِهِ وَاتِّبَاعِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَذَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْبِدَعِ الشِّرْكِيَّةِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ يَسْرِي إِلَى أَكْثَرِ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ شِرْكٌ وَكُفْرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الِاحْتِرَاسَ فِي تَفْسِيرِ {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [3: 67].
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي إِرْشَادِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [22: 30، 31] وَمِثْلُهُ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ يُونُسَ: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [10: 105] وَفِي سُورَةِ الرُّومِ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [30: 30- 32] فَهَذَا بِمَعْنَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهِ فِي جُمْلَتِهِ وَسِيَاقِهِ كَمَا نَبَّهْنَا إِلَيْهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ.
وَأَمَّا أَمَرُهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّ مَا هَدَاهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْقَيِّمِ هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ فَهُوَ بِمَعْنَى أَمْرِهِ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ حَيْثُ قَالَ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [16: 120- 123] فَحِكْمَةُ كُلٍّ مِنَ الْإِخْبَارِ وَالْأَمْرِ اسْتِمَالَةُ الْعَرَبِ ثُمَّ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، بِبَيَانِ أَنَّ أَسَاسَهُ وَقَوَاعِدَ عَقَائِدِهِ وَدَعَائِمَ فَضَائِلِهِ هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ الْمُتَّفَقُ عَلَى هُدَاهُ وَجَلَالَتِهِ، وَكَذَا سَائِرُ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ الْعَمَلِيَّةُ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [5: 48] وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَةَ بِطُولِهَا لِمُنَاسِبَةِ آخِرِهَا لِخَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ السُّورِ الطُّوَالِ وَالْمَائِدَةُ آخَرُ مَا نَزَلَ مِنْهَا. وَإِذْ عَلِمْنَا حِكْمَةَ الْإِخْبَارِ وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَلَا مَجَالَ بَعْدُ لِتَوَهُّمِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلُ، وَلَا أَنَّ مِلَّتَهُ أَكْمَلُ، إِذْ لَيْسَ هَذَا بِمُنَافٍ وَلَا بِمُعَارِضٍ لِنَصِّ آيَةِ إِكْمَالِ الدِّينِ، وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى الْعَالَمِينَ، عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ.
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هَذَا بَيَانٌ إِجْمَالِيٌّ لِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ بِالْعَمَلِ، بَعْدَ بَيَانِ أَصْلِ التَّوْحِيدِ الْمُجَرَّدِ بِالْإِيمَانِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ جِنْسُهَا الشَّامِلُ لِلْمَفْرُوضِ وَالْمُسْتَحَبِّ، وَالنُّسُكُ فِي الْأَصْلِ الْعِبَادَةُ أَوْ غَايَتُهَا وَالنَّاسِكُ الْعَابِدُ، وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ وَعِبَادَةِ الذَّبَائِحِ وَالْقَرَابِينِ فِيهِ أَوْ مُطْلَقًا. وَفُسِّرَ بِالْوَجْهَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [2: 128] وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [2: 200] فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عِبَادَاتُ الْحَجِّ كُلُّهَا، كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَخْصِيصِ النُّسُكِ بِبَعْضِ الذَّبَائِحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [2: 196] فَالنُّسُكُ فِي هَذِهِ الْفِدْيَةِ ذَبْحُ شَاةٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [22: 34] قَدْ عَيَّنَ التَّعْلِيلَ وَالسِّيَاقَ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالنُّسُكِ هُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَوِ اسْمُ الْمَكَانِ الَّذِي تُذْبَحُ فِيهِ الْقَرَابِينُ أَوَتُنْحَرُ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ تَعَالَى وَبَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٌ أُخْرَى فِي ذَلِكَ خَاصَّةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ آيَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [22: 67] فَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعَمُّ مَا وَرَدَ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ بِمَعْنَى الدِّينِ أَوِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ مَا قَدَّمَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَكِنْ رُوِيَ تَفْسِيرُهُ فِي الْمَأْثُورِ بِالذَّبْحِ وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالْعِيدِ. وَحَقَّقَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ النَّاسُ لِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمِنْ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى مَشَاعِرِ الْحَجِّ وَمَعَاهِدِهِ وَعَلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانُوا يَذْبَحُونَ فِيهَا لِلْأَصْنَامِ كَالنُّصُبِ.
وَأَمَّا الْمَأْثُورُ فِي تَفْسِيرِ: {نُسُكِي} هُنَا فَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: ذَبِيحَتِي، وَعَنْ قَتَادَةَ: حَجَّتِي وَمَذْبَحِي. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ضَحِيَّتِي، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: ذَبِيحَتِي فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: يَعْنِي الْحَجَّ. وَلَا يُنَافِي تَنَافِي تَفْسِيرِهِ بِالذَّبِيحَةِ الدِّينِيَّةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتْ فِدْيَةً أَوْ أُضْحِيَّةً فِي الْحَجِّ أَوْ غَيْرِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ التَّضْحِيَةِ: «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ صِلَاتِي وَنُسُكِي- إِلَى قَوْلِهِ- أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» الْحَدِيثُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ: «يَا فَاطِمَةُ قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِهِ وَقَوْلِي: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا لَكَ وَلِأَهْلِ بَيْتِكَ خَاصَّةً فَأَهْلُ ذَلِكَ أَنْتُمْ أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَالَ: «بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً».
وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لِلنُّسُكِ يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَذَبْحِ النُّسُكِ كَالْأَمْرِ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [108: 2] وَإِذَا فُسِّرَ النُّسُكُ بِالْعِبَادَةِ مُطْلَقًا يَكُونُ عَطْفُهُ عَلَى الصَّلَاةِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِأَنَّهَا مِنْهُ، وَإِلَّا كَانَ سَبَبُ الِاقْتِصَارِ عَلَى ذَكْرِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْعِبَادَةِ هُوَ كَوْنَهَا أَعْظَمَ مَظَاهِرِ الْعِبَادَةِ الَّتِي فَشَا فِيهَا الشِّرْكُ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَرُوحُهَا الدُّعَاءُ وَالتَّعْظِيمُ، وَتُوَجُّهُ الْقَلْبِ إِلَى الْمَعْبُودِ، وَالْخَوْفُ مِنْهُ وَالرَّجَاءُ فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الشِّرْكُ مِمَّنْ يُغَالُونَ فِي تَعْظِيمِ الصَّالِحِينَ، وَمَا يُذَكِّرُ بِهِمْ كَقُبُورِهِمْ أَوْ صُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ، وَأَمَّا الْحَجُّ وَالذَّبَائِحُ فَالشِّرْكُ فِيهِمَا أَظْهَرُ، وَقَلَّمَا يَقَعُ الشِّرْكُ فِي الصِّيَامِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ خَفِيٌّ، وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّصَارَى ابْتَدَعُوا صِيَامًا أَضَافُوهُ إِلَى بَعْضِ مُقَدَّسِيهِمْ كَصَوْمِ السَّيِّدَةِ، وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اتَّبَعَهُمْ فِيهِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا صَدَقَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْوَارِدِ فِي اتِّبَاعِهِمْ سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ فَإِنَّهُ فِي الْكُلِّيَّاتِ دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ.
وَقَدْ كَانَتِ الذَّبَائِحُ عِنْدَ الْوَثَنِيِّينَ مِنَ الْعِبَادَاتِ يُقَرِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ وَيُهِلُّونَ بِهَا لَهُمْ، ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَخَرَجُوا بِقَرَابِينِهِمْ عَمَّا شُرِعَتْ لَهُمْ مِنْ كَفَّارَةٍ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، فَصَارُوا يُهِلُّونَ بِهَا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُنْذِرُونَهَا لِأُولَئِكَ الْقِدِّيسِينَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ عِبَادَةِ الشِّرْكِ، فَمَنْ فَعَلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ حُكْمُ مَنْ فَعَلَهَا مِنْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْآيَةِ: 145 وَسُورَتَيِ الْبَقَرَةِ الْآيَةِ: 173 وَالْمَائِدَةِ الْآيَةِ: 3. وَمَا تَأْوِيلُ بَعْضِ الْمُعَمَّمِينَ لَهُمْ إِلَّا كَتَأْوِيلِ مَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ.
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا وَالْعِبَادَاتُ إِنَّمَا تَمْتَازُ عَلَى الْعَادَاتِ بِالتَّوَجُّهِ فِيهَا إِلَى الْمَعْبُودِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ وَتَعْظِيمًا لَهُ وَطَلَبًا لِمَثُوبَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَكُلُّ مَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْمُصَلِّي أَوِ الذَّابِحُ بِذَلِكَ وَيَقْصِدُ بِهِ تَعْظِيمَهُ فَهُوَ مَعْبُودٌ لَهُ، سَوَاءٌ عَبَّرَ فَاعِلُهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْ لَا، فَالْعِبَادَةُ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعِبَادِ وَخَالِقِهِمْ، فَإِنْ تَوَجَّهَ أَحَدٌ إِلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُكَرَمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّا يُسْتَعْظَمُ خَلْقُهُ كَانَ مُشْرِكًا، وَاللهُ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعِبَادَةِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.